المعرفة وحدها لا تنفع
باب: نموي في الرحلة
الكاتب: يزن ملكونيان
التاريخ: نوفمبر 20, 2023
نظرتُ إليها، ابنتي ذات الثلاث سنوات ونصف وإذ هي تمارس موهبتها الفنية بالرسم المائي على الطاولة البيضاء بالرغم من وجود دفتر الرسم بجانبها. شعرتُ بغضب شديد لكن وبنفس الوقت لم أستطِع التعبير عن غضبي تجاهها. وبعيون معاتبة لها، سألتها: يا بابا، ليش عملتِ هيك؟ قالت لي بعيون مليئة بالبراءة: ما بصير نرسم على الطاولة بس بنرسم على دفتر الرَّسم.
صدمتني إجابتها، وحقيقةً لم يكن في وسعي عمل أيِّ شيء، حتى إنني لم أستطع أن أعلِّمها شيئًا جديدًا. لأنها تعرف ما هو الصحيح وما هو الخطأ. مشكلة ابنتي ليست المعرفة وإنما العيش بناءً على هذه المعرفة. التحدّي أمامها ليس غياب المعلومة وإنما تجاهل العيش بالاعتماد على معرفتها. بالمختصر مشكلتها ليست المعرفة وإنما التطبيق.
شاءت الظروف أن أنظر إلى المرآة في تلك اللحظة ونظرتُ إلى نفسي بعمق. قلت في قلبي: أنا أيضًا كذلك، فأنا أعرف الكثير في حياتي لكن لا أُطبِّق ما أعرفه. وبدأتُ أفكِّر في نفسي: لماذا لا أعيش بناءً على ما أعرف؟
تذكرت مباشرةً كلمات بولس الرسول التي تُجسِّد صراعَ الجسد مع الروح فينا. إذ تقول كلمة الرب في رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية الأصحاح 7: (18-20):
“فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ سَاكِنٌ فِيَّ، أَيْ فِي جَسَدِي، شَيْءٌ صَالِحٌ. لأَنَّ الإِرَادَةَ حَاضِرَةٌ عِنْدِي، وَأَمَّا أَنْ أَفْعَلَ الْحُسْنَى فَلَسْتُ أَجِدُ. لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ.”
تُخبرنا كلمة الله أنَّ الشر الذي نفعله في حياتنا رغم معرفتنا للصح والخطأ هو نتاج الخطية التي نحياها. وعلى الرغم من أنَّ المسيح حرَّرنا وعتقنا من ناموس الخطية إلا أنَّ طبيعتنا الفاسدة (أي الجسد) ما زالت في صراع مستمرٍّ حتى آخر يوم نحياه في حياتنا إلى أن نُعتَق من جسد الخطية ويعود إلى التُّراب، وعندها نُلبس أجسادًا ممَجَّدَة غير قابلة للسقوط في الخطية، وهذا ما يُسمّى بالتمجيد. هذا أمر مُعزٍّ جدًّا، لكن يبقى السؤال: ما الذي يمكننا فعله ونحن نتَّجه إلى حياتنا الأبدية؟
الصِّراع الصحيُّ
عادة ما يعتقد الناس أنَّ كلمة صراع هي كلمة سلبيَّة، لكن في حالة مثل هذه الحالات تُعتبَر أمرًا إيجابيًّ؛ لأنَّ هناك طبيعتَين بداخلنا في حالة صراع مستمرٍّ: طبيعة مُقادة بالروح القدس وهو صوت الله في داخلنا، وطبيعة أخرى فاسدة تريد دائمًا تحويل رغباتنا الرّوحية إلى رغبات شريرة. ولطالما أصابنا مرض تخمة المعرفة لنواجه مشكلة الهضم بالتطبيق. تخيَّلي شخصًا يأكل باستمرار لكنه لا يتحرَّك أو يمارس التمارين الرياضيَّة. هذا ما يحدث تمامًا لمَن يقرأ ويملأ دماغه بالمعرفة، لكنه لا يعيش بحسبها أو يمارسها.
لذلك سأقدِّم لك عزيزتي بعض المقترَحات التي لربما ستساعدكِ على تطبيق المعرفة التي أكرمكِ الله بها.
المقترح الأول:
- التمييز
الخطوة الأولى تبدأ بالتمييز: تمييز ما هو صحيح وما هو خاطئ، ما هو جيد وما هو سيئ. على سبيل المثال لا الحصر. من قراءة الكتاب المقدس نتعلّم أنَّ الإيمان هو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى، بكلمات أخرى يُخبرنا الكتاب أنَّ الرجاء في المسيحية يكون يقيًنا مرجُوًّا أي الثِّقة بأنَّ هذا الرجاء المستقبليَّ سيتمُّ يومًا ما؛ لأنَّ تحقيقه مرتبط بالله الذي لا يعتريه تغيير أو ظلُّ دوران، وفي نفس الوقت هو كُلّي القدرة. بينما الرجاء العالمي يبقى أمنيات وتوقُّعات لا يمكن التأكد من إتمامها؛ لأنَّ تحقيق هذا الرجاء مرتبط بالإنسان المتغيِّر وفي نفس الوقت ليس لديه القدرة على التَّحكُّم بالمستقبل.
ومن هنا تبدأ نقطة التمييز: هل ما أنتِ متمسِّكة به مرتبط بالإيمان أم بالرجاء العالميِّ؟ فعندما تتعرَّض لأيِّ نوع من الآلام، هل ستتمسَّكين بوعد الله الذي قال: “فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا؟” (رومية 8: 18). أم ستستمرّين بالندم، والحسرة، والتعب، والعتب على الله الَّذي سمح أن تجتازي هذا الامتحان الصَّعب؟
المقترح الثاني:
- اربطي
هنا تبدأ الخطوة الأهمُّ، وهي ربط ما تعرفينه بواقع حياتك الخاصة، حياتك في العائلة أو العمل أو الكنيسة. فعندما تتعرَّضين إلى أيٍّ من الآلام في أيِّ جانب من جوانب حياتك، ابقي متمسِّكة بالإيمان بأنَّ ما يحدث- حتى لو كان مؤلِمًا سيكون أداة لتشكيلكِ لتكوني أكثر شبهًا بصورة المسيح. لأنكِ في الوقت الذي تقدِّمين فيه حياتكِ للمسيح ستكونين ضمن دائرة مشيئته. ومَن هم داخل هذه الدائرة يكون الألم وسيلة تشكيل لنموِّهم.
كما يفعل المزارع أثناء تقليم الأشجار، إنه يقطَع الأجزاء التي تؤثِّر على النمو والإثمار وتستنزف الطعام والاهتمام، وبعد مرور الوقت تجدين الشَّجرة قد عادت بثمار مُضاعفة؛ لأنَّ الطَّعام والاهتمام ذهبوا للموضع الأهمّ، والأغصان غير المثمِرة قُطعت وزالت. وهكذا يبدأ الربط بين الألم وفوائده مقارنةً بواقع الحياة التي نعيشها. وعندما نبدأ بالربط بينهما ننتقل إلى الخطوة الثالثة والأخيرة وهي التطبيق.
المقترح الثالث
- طبِّقي
سأعود إلى القصة التي بدأتُ بها المقال. لربما أنَّ ابنتي تعرف أنَّ الرسم يجب أن يكون على الدفتر، لكنها فضَّلت الرسم على الطاولة، وهذا ممكن، فلربما بدت الطاولة مغرية، بيضاء، مسطَّحة وكبيرة، لذا بالرغم من وجود الدفتر إلا أنَّها لم تربط الغاية بالوسيلة. فالغاية كانت أن تعبِّر عمّا يجول في خاطرها بالرسم لكنها استخدمت الوسيلة الخطأ، وبالتأكيد الغاية لا تبرِّر الوسيلة.
قيسي على نفس المنوال في حياتنا الواقعية. لربَّما المغريات التي نراها والظروف التي نحياها تجعلنا نتنازل عن مبادئنا بالاكتفاء بالمعرفة، ونعيش بعكس ما نعرف، لكن بالتأكيد الغاية لا تبرِّر الوسيلة. لذلك يجب أن تضعي خطة عمل مكتوبة وتعلنيها لأحد المقرَّبين إليكِ، فتكون هذه الخطة قابلة للتطبيق. وبنفس الوقت يكون هناك وقت للمحاسبيَّة من قِبَل هذا الشخص المقرَّب إليكِ.
عيشي متصالِحة مع ذاتك
يبدأ التغيير عندما نُغيِّرين نظرتكِ إلى كلمة الله، فبدلًا من النظر إليها ككتاب معرفيٍّ، انظري إليها ككتاب حياة. يُشكِّل فيكِ ويغيِّر حياتكِ إلى الأفضل في رحلة من النمو الروحي والنضج الروحي. وعندما تتغيَّر عقليتكِ وتصطبغين بكلمة الله، ستستنتجين أنَّ نظرتكِ أنتِ إلى نفسكِ ستتغيَّر وفق ما تقوله كلمة الله عنكِ، ويتجدَّد فكركِ مُتَّخذًا اتجاهًا آخر.
لسنين طويلة وأنا أبحث عن الحبِّ غير المشـروط في الحياة ولم أجد، حتى التقيتُ بكلمة الله. ووجدت فيها هذا الحُبَّ الذي يقبلني من دون شروط الذي غيَّر نظرتي عن الله، وغيَّر نظرتي عن نفسي، ورأيت نفسي كما يراني الله.
رسالة مني إليكِ
قد تكونين معلِّمة في كلمة الله وقمت بدارسة الكتاب المقدس والكثير من نصوصه لسنوات. وتلتزمين في الكنيسة وتحضرين عدَّة اجتماعات، لكن ما لم تنعكس هذه المعرفة على حياتك، لن تنفعكِ في شيء، إنما ستنفخكِ وحسب (1 كورنثوس 8: 1)، ولربما تبعدكِ أيضًا عن فكر الإله الحيّ العامل في حياتك.
حرِّري معرفتك العقليَّة لتنعكس في صورة تطبيق حيٍّ في حياتك. كما فعل إلهكِ وعبِّر عن محبته الباذلة بتجسُّده وتألُّمه وإعلان ذاته. افحصي نفسكِ وامتحنيها باستمرار، وبمعونة الروح القدس ستقدرين أن تعيشي الحياة التي قصدها الله لكِ. لا تتفشَّلي؛ فالتَّغيير يبدأ بخطوة حقيقيَّة منكِ!