إعداد: لما عطاالله
كان الحرُّ لا يُحتمَل في ظهر ذلك اليوم من شهر آب في مدينة عمان. ذلك النوع من الحر الذي يظهر على وجوه الناس زهقًا ومللًا وعصبية. كنتُ عائدة إلى منزلي، وعندما صعدت إلى الباص -الذي كان صغيرًا جدًا وقديمًا بدون أية وسيلة تكييف، وتفوح منه رائحة الدخان الأسود- أدهشني مشهد السائق. رجل في الخمسين من عمره نحيل جدًّا يبدو على ملابسه وشكله الفقر بوضوح، لكن له ابتسامة جميلة تُظهر حماسًا وتفاؤلًا. قدَّم لي التحية أثناء صعودي إلى الباص: “أهلًا وسهلًا تفضَّلي، كيف حالك يا بنتي اليوم؟”. وهي تحية ألقاها على كل من صعد إلى الباص اليوم أثناء مروره البطيء في شوارع عمان المزدحمة. لقد اندهش الركاب بمَن فيهم أنا، لكن لم يردّ إليه التحية إلّا القليل منهم بسبب مزاجهم الكئيب والمتعكِّر. لكن لاحقًا حدث تحوَّل بطيء في مزاج الركاب بدا كالسحر بينما أخذ الباص يتحرَّك ببطء شديد.
فقد بدأ السائق بإطلاق التعليقات اللَّطيفة المليئة بالتفاؤل على كلِّ ما نراه من مشاهد حولنا، “شفتوا كيف الشجرعم بكبر بنص الشارع؟ ما شاء الله بتذكر أوَّل ما زرعوه قبل كم شهر. كيف كان وهلأ كيف صار!، “شوفوا ما أحلى الأطفال وهم مروحين من مدارسهم، الله يديم الفرحة عليهم”، “الله يرزقهم صحاب هالمحلّات ويعطيهم على قد تعبهم وزيادة”. وغيرها من التعليقات الكثيرة التي إذا سمعتِها على لسان السائق سيرسم في عقلكِ عمان مدينةً سحريَّةً خلّابَة. عندما نزل الركاب من الباص كانوا قد تخلَّصوا من الوجه الكئيب وبدَت الابتسامة على وجوههم.
بقي مشهد السائق محفورًا في ذاكرتي، فكنتُ متأكدة بأنَّ ظروفه لم تكن أحسن من أيِّ راكب آخر في الباص. إذ بدا عليه الفقر بوضوح. كما كان يعمل في الباص منذ السادسة صباحًا حتى منتصف الليل دون توقف، في الحرّ الشديد وفي أزمة عمان الخانقة. لكن كانت مشاعره الطيبة كالفيروس المعدي الذي ينتقل إلى كل مَن يركب الباص.
ما هو التفسير لما حدث في الباص؟ ما الذي يجعل مشاعر السائق طيِّبة على عكس باقي الرُّكّاب؟
ما هي المشاعر؟
المشاعر هي ردود الأفعال المباشِرة والتلقائية للواقع الذي نعيشه. المشاعر هي التي تجعلنا نعيش الحياة الفعلية ونتلامس معها، نفرح بحلاوتها وننزعج من مرارتها، ونختبر كل نكهة خاصة فيها سواء كانت حلوة أم مرَّة.
المشاعر والانفعالات جزء أساسيٌّ من حياتنا اليومية، بعضها يحدث بشكل يوميٍّ ومعتاد مثل الضحك على موقف طريف. أو الإحباط من الزحام المروري في ساعات الأزمة، وبعضها يحدث على فترات ويكون أكثر حِدَّة، مثل الحزن من خذلان صديق، أو الغضب من أفعال الآخرين، وغيرها. وتظلّ المشاعر والانفعالات أمرًا طبيعيًّا ما دامت تحت السيطرة، وما دامت مناسِبة للموقف، لكنَّ المشكلة تكمن عند فقداننا لإدارة مشاعرنا.
’’لا أريد أن أكون تحت رحمة مشاعري، أريد استخدامها والاستمتاع بها والسيطرة عليها”. أوسكار وايلد
هل شعرتِ يومًا بأنَّ سير يومك يعتمد على مزاجك في ذلك اليوم. فإذا مثلًا لم تنالي قسطًا كافيًا من النوم يكون كلُّ يومك سيئًا، أو إذا تصادمتِ مع أحد زملائك يتحوَّل يومك بالكامل. هل تشعرين بأنه لا يمكنك السيطرة على مشاعرك في المواقف المختلفة، وتجدين تصرُّفاتك تنقاد بمشاعرك؟
ما هي إدارة المشاعر؟
تُعرَّف إدارة المشاعر بأنها القدرة على إدراك مشاعرك وفهم مشاعر الآخرين، وتقبُّلها والنجاح في السيطرة عليها. إدارة المشاعر تعني أن تقودي مشاعرك بدلًا من أن تقودكِ هي. إدارة المشاعر من أصعب الأمور التي لا يستطيع الكثيرون فعلها. لكنّها من أهمِّ السمات الشخصيَّة التي يمكن أن يتحلّى بها الإنسان في رحلة النمو الشخصي.
كيف تقوّي مهارات إدارة المشاعر؟
قد يبدو لكِ أنها عملية طويلة، ولا يمكنك القيام بها كل مرة. صحيح، ليست بعملية سريعة لكنها ليست بطيئة لدرجة أننا لا نقدر أن نقوم بها. بالإضافة أنه مع التمرين عليها، ستتمكنين من خلق نمط تفكير ونمط مشاعر تلقائيٍّ مختلف مبنيٍّ على ما صرتِ أكثر وعيًا فيه وما أنتِ تختارينه، فتصير عملية الوعي بالتفكير والشعور أسرع وأكثر فاعليَّة.
إليك 3 طرق عملية لإدارة مشاعرك والسيطرة عليها.
- اختاري الموقف أو عدِّلي عليه
أحيانًا يكون لك الخيار في اختيار المواقف أو الوجود فيها. حيث تعرفين المشاعر التي من المحتمل أن تنتابك اعتمادًا على ما تريدينه أنتِ أو ما تحبينه أنتِ.
مثلًا: إذا كنت تعلمين أنكِ دائمًا ما تكونين مضطربة عند التسوق في مركز تجاري مزدحم. قومي بالتسوُّق عندما يكون أقل ازدحامًا بحيث تكونين قادرة على قضاء كل الوقت الذي تحتاجينه لاتخاذ خيارات جيِّدة في الشراء.
أحيانًا أخرى يمكنك تغيير أو تعديل البيئة وبالتالي تحديد مشاعرك. على سبيل المثال، إذا كنت تعرفين أنك تشعرين بالتوتر والقلق عندما يأتيك ضيوف في وسط الأسبوع بسبب أهمية موعد نوع الأطفال بالنسبة إليكِ. مثلًا، يمكنك الاعتذار عن أي نوع من الزيارات في هذه الأيام أو تأجيلها لما بعد نوع الأطفال أو إلى عطلة نهاية الأسبوع.
- وجِّهي انتباهكِ نحو الموقف
على عكس الحالتين الأوليَين اللَّتين تلعب فيهما البيئة الخارجية دورًا في التغيير. فإنَّ هذه النقطة تركِّز على توجيه انتباهك نحو الموقف. تشبه إلى حدٍّ كبير نقطة اختيارَ الموقف لكن من ناحية داخلية حيث يمكنك تغيير تركيزك. أو اختيار كيفية التفكير في الظروف، وبتغيير تفكيرك يمكنك تغيير ردود أفعالك.
على سبيل المثال، إذا كان لديك اختبار مهمٌّ، وأهمية الامتحان أدَّت إلى شعورك بالقلق أو الخوف. فإنَّ إحدى الطرق لتحويل انتباهك عن نقاط ضعفك هو التركيز على نقاط قوتك وعلى موهبتك الطبيعية وقدرتك واستعدادك للعمل بجدٍّ، وبالتالي سيكون لديكِ وقت أقل للقلق بشأن أيِّ شيء آخر.
- غيِّري استجابتكِ
في بعض الأحيان بصرف النظر عن الاستراتيجيات الأخرى التي لربما قد استخدمتِها، يجب عليك تغيير معنى الموقف من خلال إعادة تقييمه بالكامل. على سبيل المثال، إذا نسيَتْ صديقتك موعد لقائكما، وأُصبتِ بخيبة أمل معتقدة أنها لا تهتمُّ بكِ، أعطي نفسكِ بدائل وتبريرات، مثل: هي مشغولة جدًّا أو قد تكون فقدَت تركيزها بسبب انشغالها. لا ترسمي سيناريوهات قد تؤدي بكِ إلى موقف عاطفيٍّ سيّئ.
درِّبي نفسكِ على استراتيجية التوقف – الهدوء – المعالجة:
- التوقُّف: هو الخطوة الأصعب، ويحتاج إلى إرادة قوية للغاية، فالمشاعر القوية لها قدرة كبيرة على السيطرة وقد تجعل الإنسان يرتكب ما يندم عليه لاحقًا. وسواء كانت المشاعر غاضبة أو مفرِحة أو صادمة، فإنَّ التوقف والتفكير أمران ضروريّان لإدارة مشاعرك.
قبل أن تردّي على انتقاد تشعرين أنه ظالم، توقَّفي!
وقبل أن تتَّخذي قرارات ناتجة عن الشعور القوي بالعِشق أو الفرح أو الغضب، توقَّفي!
وقبل أن تُفرغي غضبك من موقف مسيء، توقَّفي!
- الهدوء: بعد أن قمتِ بالخطوة الأصعب وهي التوقف، من المهم أن تدعي مشاعرك تهدأ قليلًا، لأنَّ بقاءها قوية ومشتعلة لن يساعدك على التفكير بوضوح وعقلانية.
- المعالَجة: الآن أنتِ في وضع أفضل للتفكير في الأمر كلِّه، والتوصُّلِ إلى ردِّ فعل مناسب.
- حدِّدي مشاعركِ وسمّيها، مثلًا، أنا أشعر بالحزن، الغضب، الفرح، الحُبّ، العصبية…إلخ.
- صفي مشاعرك بكلمات، مثلًا: أنا مستاءة جدًّا من إهمال صديقتي وعدم ردِّها على رسائلي، أو أشعر بالغضب من انتقاد مديري لعملي!
- فكِّري في مصدر مشاعرك وسببها، فكثيرًا ما تحجب المشاعر السطحية والأسباب المباشرة مشاعرنا الأعمق، والمسبِّبات الحقيقية لها، لذا أعطِ نفسك فرصة التفكير المتأنّي في حقيقة مشاعرك. استجابتك وردود أفعالك أنتِ مَن يجب أن تتحكَّمي فيها. تذكَّري أنَّ تصرفاتنا وسلوكياتنا تأتي نتيجة لمشاعرك، ومشاعرك تكون موجَّهة من أفكارك وأنماط تفكيرك التي تأتي نتيجة معتقداتك. اسألي نفسك: ما هو المعتقَد أو الفكرة التي نتجَت عنه أو عنها هذه المشاعر؟
والآن عودة إلى قصة السائق، أرى أنه أظهر نموذجًا محترِفًا في إدارة مشاعره. فهو في موقف لا يمكن تغييره (لا يمكن أن يغيِّر من حرارة الطقس مثلًا أو يخفِّف من أزمة الطريق) كما أنه لا يمكن تعديله أو تبديله (فهو بحاجة إلى هذه الوظيفة لإطعام عائلته وتدبير أموره الماليَّة). لذا اختار السائق أن يغيِّر موقف قلبه وأن ينظر إلى الجانب الجيِّد من الموقف. فكان يركِّز نظره على الأمور الجميلة في الشارع وليس على الازدحام. لقد أدار مشاعر العصبيَّة والغضب والتعب والإرهاق وحوَّلها إلى مشاعر طيِّبة.
عزيزتي، أدعوكِ اليوم إلى التفكير مليًّا بهذا الموضوع وتردي على سؤال: كيف أطور من نفسي في هذا الجانب. لأنَّ عدم القدرة على إدارة مشاعرك ستنعكس على تصرُّفاتك التي ستنعكس أيضًا على علاقاتك. لذا أدعوكِ أن تتعلَّمي مهارات إدارة المشاعر وضبطها وتضعي هذا هدفًا مهمًّا للغاية في حياتك كما فعلت بجعلها من أهدافي في الحياة. فإنتِ ما تشعرين به وما تظهرين به أمام الناس، وبالتالي تتأثَّر كل حياتك وفقًا لاختياراتك. وهذا يحتاج إلى تدريب ووعي حتى يُصبح مع الوقت أسهلَ، فلا تقعين فريسة لانفعالاتك أو تقومين بردود أفعال لا تُريدينها.