ستة مفاتيح لعلاج النفس والروح من خلال خدمة الآخر
باب: تأثيري في الرحلة
الكاتب: فؤاد قاقيش
التاريخ: نوفمبر 20, 2023
“خذ من التل يختل“
مثل شعبي معروف في عدة دول عربية، ويُضرب في أنَّ الإسراف في ما تملك لا يُبقى لك شيئًا، ولو كان ما تملك في الكثرة كالتراب في التل.
في مصر عند واحة سيوة، المنطقة التي تبعد حوالي 300 كم عن ساحل البحر المتوسط، يقوم سكان المنطقة بحفر التل في الواحة بعمق يزيد عن 4 أمتار تحت الأرض لاستخراج الملح، والغريب أنه عندما تمضي 6 شهور بعد الحفر يعود أهل سيوة ويجدون المكان قد امتلأ بالملح مرة أخرى، وهنا يتحوَّل المثل عندهم إلى خذ من التل يزيد. ويُعيد هذا المثل إلى ذاكرتنا مفهوم المسيحية الأساسيَّ، فكل إنسان يخدم ويُعطي بسخاء يزيد ولا يختلّ أو ينقص.
إنَّ خدمة الآخر والتفكير به توصف كعلاج نفسي يعزِّز الصحة النفسية والجسدية للمتقدِّمين في السن والمتقاعدين في علم نفس الشيخوخة، ويعزِّز حياة الفعالية لدى المراهقين والبشر عمومًا، وذلك من خلال إدماجهم في نشاطات اجتماعية وجمعيات مختلفة. إنَّ خدمة الآخر مهمة للحياة ولا يمكن المطالَبة بأن يتمَّ توقفها؛ لأنها دواء طبيعي.
فيكتور فرانكل الطبيب النفسي في حديثه عن نظرية العلاج بالمعنى يرى أنَّ الإنسان يستطيع الحصول على الفرح الحقيقي وفهم غرض الحياة عندما يتعرَّض إلى خبرة الخروج من دائرة الأنا والانخراط في خدمة الآخرين، وهنا أشجعك عزيزتي على التفكير في هذا السؤال:
هل تجدين أنَّ العطاء هو جزء محوريٌّ من حياتك؟ هل تتعرَّضين حاليًّا إلى خبرة الخروج من دائرة الأنا لخدمة الآخر؟
المفاتيح التي تساعد على إيجاد المعنى من خلال خدمة الآخرين والتأثير فيهم:
المفتاح الأول
- مفتاح التضحية بدوافع نقية
إدراك أنَّ الخدمة المضحية هي النموذج المثالي الذي تقوم عليه الحياة المسيحية، حيث يقول الكتاب المقدس عن خدمة يسوع للتلاميذ “قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَ.” (يوحنا 13: 4). إنَّ هذا تعبير حقيقي عن أنَّ يسوع القائد أخذ صورة عبد وخادم ليقوم بخدمة التلاميذ وغسل أرجلهم، لتكون لهم صورة حقيقيَّة عن الحب والتضحية والدوافع النقية من خلال خدمة الآخر قبل الكلام والتنظير.
المفتاح الثاني
- مفتاح الخروج من دائرة الراحة
يخبرنا العلم أنَّ النجم الذي يضعف بريقه في الخارج؛ لأنه منشغل في نفسه هو الثقب الأسود، وكذلك الإنسان كثيرًا ما يكون مثل الثقب الأسود يختفي بريقه عندما ينحصر في تفكيره وخدمته حول نفسه. لذلك كوني واعية لما يوجد خارج منطقة الراحة. تطوَّعي لمعرفة احتياج الآخرين وما هي الأشياء التي تعتقدين أنها تستحق القيام بها وتصنع تأثيرًا، ضعي أمامكِ دائمًا هدفًا واضحًا أنَّ سعادتي غير مرتبطة براحتي بقدر ما هي مرتبطة بتأثيري ونفعي في خدمة الآخرين. ونجد هذا واضحًا في رسالة يسوع المسيح عندما قال: “كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ.” (متى 20: 28)
المفتاح الثالث
- مفتاح فهم أنَّ تغيير الآخر ليس مهمَّتي
إنَّ أكثر ما يُحبط مَن يريد التأثير في الآخرين هو عدم رؤية النتيجة الفورية لخدمة الآخر، وهنا يضع أمامي الكتاب المقدس النص الواضح الذي يريح فكركِ عزيزتي، عندما يتكلَّم: “الأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلاً، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل.” (مرقس 4: 28). حيث تشير عبارة “الأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ” الى عمل الأرض التي تعمل بصورة آلية، الأرض تثمر من تلقاء نفسها بطريقة غير منظورة، حيث أنَّ عمل الزارع يقتصر على فلاحة الأرض وخدمتها وطرح البذور وسقيها، إن اقتضى الأمر. فهناك أمور لا تتعلَّق بمجهود الفلاح؛ النمو يعمل وحده وهو بحاجة الى الوقت الَّذي يُتيح للبذور أن تنمو. كم هذا عظيم! ولا يُشير المثل هنا إلى قدرة الطبيعة، إنما يشير إلى عمل الله. إذ يفعل الله ما لا يراه الإنسان جاعلًا الأرض تُحيي البذار وتُنبِتها وتُنميها إلى الكمال، وذلك وفق قول بولس: “أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي.” (1 كورنثوس 3: 6).
المفتاح الرابع
- مفتاح المبادرة كنز لا يفنى
لا يمكن اقتصار الكنوز التي لا تفنى على مفهوم القناعة، بل أيضًا يمكن استخدام نفس المثل في المبادَرة، فلا يمكن لي استخدام كل المفاتيح السابقة دون أن أكون شخصًا مبادِرًا في التأثير في الآخرين. والمبادَرة ليست كما يظنُّ البعض بأنها فقط نمط تمتاز به بعض الشخصيات، بل يمكن اكتساب هذه المهارات وتطويرها من خلال المبادرة والتفكير في بذل المجهود لخدمة الآخر.
- مفتاح فهم الاحتياج
ويمكنكِ فهم احتياج الآخرين من خلال عدة نقاط، وهي:
- اسألي الآخرين عما يحتاجون إليه.
- الإنصات الجيد لهم هو مفتاح قبولكِ في قلوبهم.
- انتبهي إلى تعابير الآخرين من حولك ولغة جسدهم، وهذا يعبِّر عن تعاطفك مع التحديات التي يمرّون بها.
- لا يمكن تحديد موهبتك في مساعدة الآخرين أو تسديد احتياجاتهم من غير التجربة والعمل التطوعي على صعيد الكنيسة أو المؤسسات المجتمعية.
فكِّري جيِّدًا كيف تستخدمين هذه المفاتيح الخمسة في حياتك.
فلتبدئي حياة التضحية وبذل الذات كما علَّمكِ مخلِّصكِ يسوع المسيح، ولتخرجي من أرض ودائرة الراحة التي لطالما اعتقدْنا أنَّ راحتنا فيها، لكن وبكل صراحة إنَّ وجودنا في دائرة الراحة دائمًا ما يسلب منا كلَّ نفع وتأثير. أعطيكِ مثالًا على ذلك: لا يمكن لجهاز الكمبيوتر أن يكون مفيدًا لنا إن بقي في الغلاف الخاصِّ به دون فتح، وحتى لو خرج وتمَّ استخدامه وتعرَّض للفيروسات فذلك لا يمنع الفائدة من هذا الجهاز. نعم، إنَّ فائدة الشيء لا تظهر دون خروجه إلى النور!
ولكن لا تلومي نفسكِ نتيجة معايير تضعينها، مثل: تغيَّر الناس نتيجة خدمتكِ أم لا، أو إن ازدادت علامات أولادك نتيجة تدريسك لهم أم لا، أو إن تغيَّرت صديقتك في المعاملة بعد خدمتك لها أم لا، إنما ظلّي مبادِرة معطية مضحِّية باحِثة عن الاحتياج الحقيقي؛ لكي تكوني واقفة في الثغر بإعلان محبتك وإيمانك العاملَين.
عندما تدركين أنَّ هناك دورًا واضحًا لكِ في هذه الحياة في إحداث فرق في حياة الآخرين، يصنع الله معنىً لحياتك من خلال علاقات مؤثِّرة وذات نفع وتغيير حقيقيَّين، “لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا” (أفسس 2: 10). نعم كوني خادمة مؤثِّرة بأعمال صالحة لها الأثر الباقي، ولتكن البداية من بيتك وأهلك وأولادك. ضعي هدفًا واضحًا، صيغيه من خلال تأملك في أسئلة مثل: كيف يمكنني أن أخدمهم ليكونوا أفضل؟ كيف يمكنني أن أؤثِّر في مجتمع الكنيسة، جسد المسيح؟ كيف أكون شهادة في ذلك؟ أشجِّعكِ على الجلوس مع أحدهم والحوار معه حول إمكانية تأثيرك في المكان الذي أنتِ فيه.
المراجع :
بادة، حياة .( 2018 ، أيلول 16 ).سيكولوجية العطاء. مدونات الجزيرة .
فيكتور، فرانكل . ترجمة طلعت منصور. (1982). الإنسان يبحث عن المعنى. ط1. الكويت: دار القلم.
حزبون، لويس. (2021). النمو الروحي. المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن.
بهنام، متى. تفسير رسالة أفسس. دار الإخوة للنشر. الخدمة العربية للكرازة بالإنجيل.