إعداد: شيرين كرادشة
أنتِ لا تعيشين في جزيرة وسط البحر، ولكنّكِ ضمن شبكة من العلاقات المتنوِّعة. هذه العلاقات هي التي تُغني حياتك وتضيف إليها معنى، كما إنَّ الله يستخدم علاقاتك هذه لتغييرك ونموِّك ونضجك ولتغيير ونمو ونضج الآخرين، فمن خلال العلاقات يحدث التغيير لنكون أشخاصًا أفضل، نستخدم ما لدينا من مواهب وإمكانات ومهارات بها نؤثِّر على الآخرين، وتستمرُّ دائرة التأثير هذه نحو عالم أفضل.
يقول الكتاب المقدس في بطرس الأولى 4: 10: “ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة، يخدم بها بعضكم بعضًا، كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوّعة.” فالله هو الذي يمنحك المواهب والإمكانات، وهي ليست لمنفعتك وفائدتك فقط ولكنَّها تهدف إلى بناء الآخرين من حولك.
مواهبك لغيرك
المواهب التي يمنحك الله إياها هي ليست لكِ وحدكِ ولكنَّها لأجل الآخرين. فأنتِ مخلوقة لعمل تعملينه، ولكِ دعوة ومساهَمة، وهذه الدعوة هي خدمة الآخرين، والمساهمة هي في حياتهم بشكل أساسيّ. ليس للحياة معنى إن عشتِ لنفسك وكان هدفك هو خدمة ذاتك وتسديد احتياجاتك فقط. لنفسك حقوق واحتياجات وما تقدِّمينه لنفسك يؤسِّس قاعدة مهمَّة لراحتك وانطلاقك وثقتك نحو خدمة غيرك بعيدًا عن الخوف والذنب، ولكنَّ نفسك ليست هي محور القضية فقط، فالمهمُّ ليس أنا فقط ولكن نحن.
اسألي نفسك: ما المواهب والإمكانات التي لديَّ؟ ما الشيء المميَّز الذي عندي ولا يوجد عند غيري؟ وما الشيء الذي أستمتع بعمله ولا أشعر بالوقت وأنا أقوم به؟ وما المواهب الرّوحية التي منحني الله إياها وأشعر بالمسؤولية بأن أستخدمها؟ هل هي التشجيع أم التعليم أم العطاء أم التدبير؟
خبرتنا ومعرفتنا تتضاعف عند غيرنا
ما الفرق بين أن تقومي بالعمل وحدك، أو تقومي به مع فريق؟ إنه الفرق بين رأس واحد يفكِّر أو رأسين، فعندما تجتمع أفكار شخصَين أو أكثر معًا فلا بدَّ أن يكون هناك المزيد من الإبداع وحلّ المشاكل وتوفير الوقت واستغلال أفضل للمصادر. فإن كان لديك خبرة ومهارة ما فأفضل طريقة هي أن تدمجيهما مع خبرة ومهارة آخرين، فهذا يجعل ما لديكِ يتضاعف ويكون له تأثير أفضل. ومن الجدير بالذكر أنَّ خبراتنا ومهاراتنا يمكن أن يطول عمرها وتتطوَّر وتتضاعف عندما نعلِّمها وننقلها لآخرين غيرنا.
اسألي نفسك: كيف يمكنني تعليم آخرين ما تعلَّمته؟ كيف أنقل خبرتي لغيري بحيث تكون نقطة انطلاقة لهم؟ هل هناك مجال أمامي لأنقل خبرتي لأبنائي وبناتي في كافة مجالات الحياة، سواء الدراسة أو العمل أو صنع القرارات أو حلّ المشاكل أو إدارة النزاعات؟ وكيف يمكنني عمل ذلك بطريقة مريحة لهم بحيث يشعرون إنني أقف معهم وإلى جانبهم ولستُ أقف في موقف سلطويٍّ فوقهم؟
لنا دعوة في حياة غيرنا
الكتاب المقدس واضح في دعوته لك بأن تكوني ملحًا ونورًا (متى 5: 13- 16)، فالملح يعطي طعمًا للأكل، والنور ينير الدرب ويكشف الخفايا. فأن تكوني ملحًا ونورًا يعني أن تمنحي غيرك فرصة ليكونوا أفضل وليؤدّوا بشكل أفضل في الحياة. كما إنَّ هناك دعوة من خلال هاتين الآيتين في أمثال بأن نؤثِّر في حياة الآخرين: “الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُحَدَّدُ، وَالإِنْسَانُ يُحَدِّدُ وَجْهَ صَاحِبِهِ.” (أم 27: 17)، وكذلك “اَلْمُسَايِرُ الْحُكَمَاءَ يَصِيرُ حَكِيمًا، وَرَفِيقُ الْجُهَّالِ يُضَرُّ.” (أم 13: 20).
7 طرق بها يمكن أن يكون لكِ تأثير في حياة الآخرين؟
- كوني صادقة حقيقية ولا تحاولي أن تقلِّدي شخصًا آخر، بل كوني النسخة الأصلية من نفسك.
- كوني مستمِعة، فالاستماع يمكِّنك من فهم الشخص الآخر وما يحتاج إليه وما يرغب به إضافة إلى استيعاب ماهية صفاته وشخصيته. كما إنَّ الاستمتاع يجعل الشخص يشعر بالقبول والأهمية.
- كوني مثالًا، فإن أردتِ التأثير في غيرك في صفة ما، أو تحفيزهم لعمل ما أو مهارة ما عليكِ أوَّلًا أن تكوني مثالًا وقدوة في ذلك. فصوتُ الأعمال أعلى بكثير من صوت الأقوال.
- لاحظي شيئًا إيجابيًّا يعمله الشخص حتى لو كان بسيطًا وامتدحيه عليه. ابحثي عن النجاح بدلًا من البحث عن الضعفات والنقصات والمشاكل والتقصيرات. ابحثي عن الأشياء التي يتمُّ إهمالها وتجاهلها في العادة ولكنها مهمَّة.
- أضيفي المديح في علاقاتك وتعاملك، فمدح الشخص والاحتفال بصفاته ومهاراته وإمكاناته المميّزَة وإنجازاته يدفعه إلى إعطاء المزيد والتطوُّر والنموّ.
- اسعي نحو اللطف أكثر من إثبات وجهة نظرك. قد يكون من الصعب علينا أن لا نحاول إثبات أننا على حقّ، إلا إنه قد يؤدي ذلك إلى جرح مشاعر الآخرين إذ سنكون قساة وغير لطيفين في محاولتنا التأثير عليهم وإقناعهم بخطئهم وصحَّة ما نقول.
- اعرفي مجالات تأثيرك ونقاط قوتك، وليكن ما تقدِّمينه للآخرين وما يحتاجون إليه من ضمن ما أنتِ موهوبة فيه.
كانت سامية تتعلَّم الموسيقى، ولكنَّها كانت ما زالت في بداية الطريق، إلا أنَّ رانيا كانت عازفة محترِفة تلفت انتباه الجميع. رانيا كانت أكبر سنًّا كثيرًا من سامية. فكَّرت رانيا بموهبتها التي كانت سبب فخر لها ولكثيرين من حولها، تأمَّلَتْ كيف كانت هي محور جميع الاحتفالات وكان الكلّ يطلب منها أن تعزف في العديد من المناسبات. هذا كان مُشبِعًا لها ومعزِّزًا لثقتها بنفسها. ولكنَّها توقفت لحظة وفكَّرت: هل سأستمرُّ أنا فقط بعمل ما أعمل؟ ماذا لو سافرت أو رحلت، فمَن سيعمل ما أعمله؟ كيف يمكن أن يكون هناك مثلي؟ هل عملية استنساخ لي كعازفة هي عملية ناجحة؟ هل “أنا” فقط أم يمكن أن يكون “نحن” في مجال العزف هذا؟
أمام كل هذه الأسئلة رأت رانيا سامية التي ما زالت في أوَّل الطريق، وتخيَّلتها عازفة في حفلة كبيرة يوم عيد الميلاد. ما تخيَّلته رانيا وما فكَّرت به دفعها لبدء رحلة إخراج أفضل ما في سامية. فشجَّعَتها على أخذ الدروس الموسيقية بانتظام واعتبار هذا أولوية، وبدأت بتشجيعها على عزف بعض المقطوعات ولو بصوت منخفض بينما كانت هي تعزف بصوت عالٍ، فمجرَّد وجود سامية أمام الناس شجَّعها ومنحها ثقة أكثر وكسر حاجز الخوف في داخلها. وهكذا بدأ رحلة رانيا في تضاعفها وجعل موهبتها تتَّسع إلى خارج حدود نفسها. مرَّت الأيام وأصبحت سامية في المقدِّمة، وكان هذا مصدر فخر وفرح لرانيا ولكثيرين. اندهش الجميع ولم يتوقَّعوا أن تتمكَّن سامية من عمل ما تعمله، حتى سامية نفسها لم تكن تعلم أنَّ لديها كلّ هذا، ولكنَّ إيمان وتشجيع وثقة رانيا بها دفعها لبذل أقصى جهودها والتي أثمرت بموهبة بارزة وعمل رائع. وهكذا بدأت سامية بتشجيع غيرها وتشكيل فريق صغير من العازفين، وقامت بتدريبهم أسبوعيًّا استعدادًا للحفل الموسيقي الكبير. كبرت الفرقة وبدأت بتسجيل معزوفات وتوزيعها، وابتدأ هذا كلُّه من تشجيع رانيا لسامية، واتساع دائرة التشجيع نحو عالم أفضل فيه أشخاص متغيِّرون نحو الأفضل.
ولكن ماذا عن رانيا؟
ظن الكثيرون أنها فقدت بريقها الماضي فلم تعد هي على المسرح، ولم تعد هي محطّ أنظار الكثيرين كما كانت، ومع مرور الزمن ربما ستنسى سامية مَن كانت السبب وراء نجاحها، ولكنَّ رانيا كانت تعلم أنها كانت تستخدم ما لديها من إمكانات ومواهب لُيقال لها “نعِمًّا أيها العبد الصالح الأمين! كنتَ أمينًا في القليل فأُقيمك على الكثير” (متى 25: 23). كانت رانيا تنطلق خارج إطار ذاتها، وكانت تعلم أنها تصنع فرقًا في حياة آخرين، وهذا فيه قيمة إضافية لحياتها لا فقدانًا منها. ثقتها بنفسها ومعرفتها بمواهبها، وعِلمها بما يريده الله لحياتها جعلها تنطلق دون خوف محمَّلَة بالثقة وبالشعور بالأمان نحو خدمة الآخرين وخدمة إلهها.
لهذا أشجِّعكِ أن تبدئي الآن وتبحثي عمَّن تشجعينه وتجعلي منه شخصًا أفضل. مهما كان عمرك ومهما كانت مواهبك من حيث عددها ونوعيتها وأينما كنتِ، فإنَّ لكِ رسالة وتأثيرًا في محيطك الصغير وعالمك الكبير. تذكَّري كذلك إنَّ “أعظم تأثير لتغيير الآخرين هو أن تتغيَّري أنتِ أوَّلًا وتكونين مثالًا لهم.” فكِّري بالأشياء التي بحاجة إلى تغيير في حياتك وابدئي بها؛ فالتغيير والنموّ مُعديان، عندما تتغيَّرين فعائلتك وأصدقاؤك ومَن تتعاملين معك سيتأثَّرون بك وسيكون لتغييركِ تأثيرًا فيهم. فنحن لا يمكننا أن نحفِّز الآخرين على عمل ما نحن غير مستعدّين لعمله أوَّلًا، لهذا فنحن بحاجة إلى جرأة وشجاعة لنعمل ما لم نعمله سابقًا. فما نعمله هو العامل المحفِّز لتغيير الآخرين فـ”مَن أنتِ عليه له تأثير أكبر ممّا تعملينه.”