الإساءة والمسامحة
باب: تأثيري في الرحلة
الكاتب: القس سهيل مدانات
التاريخ: أكتوبر 23, 2024
الإساءة نتيجة رئيسية للسقوط. مصدرها إبليس، وهي درجات:
الإساءة مرة واحدة
والإساءة المتكررة
والإساءة المستمرة، عادةً في البيت أو الجيرة أو العمل أو الكنيسة.
الإساءة المستمرة منذ الطفولة، وهي الأشد لأنها تحمل جروحًا قديمة متجددة، وقد تدمر الشخصية، وتشوه أجمل ما في سجل الذكرى: الطفولة.
يوسف تعرض إلى أشد أنواع الإساءات: الإساءة المستمرة منذ الطفولة:
أمه راحيل راحلة وإخوته العشرة يغارون منه ويبغضونه، وليس له إلا أخوه الصغير من أمه وأبوه المحب والعاجز. ويحمل من الماضي ذكريات باهتة من حنان أم، مع إساءات مستمرة يومية مؤلمة مع سخرية واستخفاف وتحقير من عشرة مسيئين يحيطون به ويعيشون معه في البيت كل يوم، وهم إخوته، فإلى من يذهب؟ ثم أتت المؤامرة الكبرى: حرمانه من الوحيدين المحبين، أبيه وأخيه، وقلعه من بيته وبيعه عبدا لغرباء قساة في أرض بعيدة. ثم صار يوسف ملكا مقتدرا، وأتت المفاجأة.. سامحهم، بل أحسن إليهم. (تكوين 45: 14، 15 و50: 14-21) لماذا؟
لم يكن باستطاعة يعقوب دفع الأذى من إخوة يوسف، لكنه استطاع الأهم: بناء علاقة شخصية حميمة وفريدة بين يوسف وأبيه السماوي القادر أن يحفظه، حتى بعد رحيل يعقوب. أساءوا له كل يوم، لكنه، ولأنه كان كل يوم على علاقة حميمة مع أبيه السماوي، قبل الإساءة بصمت ووداعة، وبقي يسلك باستقامة وأمانة أمام أبيه السماوي. ربي يوسف، وهو يعلم تماما بأن حياته في يد أب سماوي محب وقادر؛ لا أحد يقدر أن يخطفه من يده، ولا أحد يقدر أن يغلق ما يفتح أو يفتح ما يغلق. فأدرك بأن هؤلاء المسيئين أضعف من أن يتحكموا بحياته ويحددوا مصيره، لأن لله هو الذي يمسك بزمام حياته كلها من أولها إلى آخرها في خطة محبة وخير فريدة.
بإساءاتهم اليومية، كانوا مصدر كابوس دائم له، نهارًا وليلاً، فلم يكن غريبًا أن يحلم بهم في الليالي. لكن في أحلام الليل هذه، أراه الله الحقيقة: هم يسجدون لك.. المسيء يسجد للبار.. “مبغضو الرب يتذللون له” (مزمور 81: 15).. “الشر يميت الشرير، ومبغضو الصديق يعاقبون” (مزمور 34: 21). “الشرير يتفكر ضد الصديق ويحرق عليه أسنانه. الرب يضحك به لأنه رأى أن يومه آت” (مزمور 37: 12-13). علم بأنهم هم الخاسرون بإساءاتهم، لا هو. لذلك بدلاً من أن يمتلئ قلبه عليهم بالغيظ والحقد والرغبة بالانتقام، امتلأ بالشفقة؛ شفقة المحبة. رآهم يرفسون مناخس، وعلم بأنها تؤذيهم هم. وهكذا أيقن يوسف بأن الرب قادر أن يحول إساءاتهم للخير.. وهكذا صار أن:
إساءاتهم كانت حجارة العبور إلى المجد؛ أعظم إساءة، أوصلته إلى أعظم مصير.. عرش مصر.
إساءاتهم جعلته منكسر القلب “قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح” (مزمور 34: 18).
إساءاتهم جعلته يتكل على الرب بكل قلبه؛ “ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب. طوبى للرجل المتوكل عليه” (مزمور 34: 8).
علم يوسف ذلك، ولم يكن يستطيع قوله لهم في أيام ذله، فقاله لهم من عرشه بعدما تم: “أنتم قصدتم لي شرا. أما الله فقصد به خيرا” (تكوين 50: 20)
لا يستطيع الرجل الطبيعي أن يفهم هذه المحبة وقوة المسامحة، ولم يستطيعوا هم أن يفهموا. بقي خوفهم معهم إلى موت يعقوب، فأتوا يسترحمونه (تكوين 50: 14-21).
الحقيقة الأولى:
أجرة الخطية موت. إذا المسيء هو الخاسر لا العكس. أنت الرابح وهو الخاسر. لا تتألم منه بل تألم عليه. لا تحنق عليه بل اشفق عليه بمحبة الرغبة الصادقة بالإصلاح. التاريخ الكتابي وحتى التاريخ البشري لا يكرم المنتقم، بل المسامح، لأن المسامحة قوة. وهذه القوة لا تأتي إلا ممن هو أقوى من مسيئيه. قد تغضب من إيذائك. لكن إن علمت بأن لن تؤذى فلماذا الغضب؟ المسيء يسيء إلى نفسه. هو الخاسر، والمساء إليه هو الرابح. أفضل أن أكون مساء إليه من أكون مسيئا.. “كف عن الغضب واترك السخط ولا تغر لفعل الشر. لأن عاملي الشر يقطعون والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض. بعد قليل لا يكون الشرير. تطلع في مكانه فلا يكون. أما الودعاء فيرثون الأرض ويتلذذون في كثرة السلامة” (مزمور 37: 8-11).
الحقيقة الثانية:
إن سلكت بأمانة ومحبة للرب، سيجعل حجر الإساءة حجر عبور إلى الأفضل. إذا التقطت الحجر ورميت به المسيء، خسرت وسيلة العبور. “كل الأمور تعمل معا للخير للذين يحبون الله” (رومية 8: 28).
الحقيقة الثالثة:
في الإساءة ألم، ولكن الألم: هو الذي يجعلنا منكسري القلوب؛ ينزع عنا الكبرياء والسطحية والطيش والعبث، ويدخلنا إلى بعد الحياة العمودي. هو الذي يجعلنا ندرك ضعفنا وعجزنا وحاجتنا إلى الرب. يجعلنا ننظر إليه وحده كالمعين والمحب وصخر الحياة.
الحقيقة الرابعة:
هو الله، وهو صاحب السلطات الأربع. هو ولي أمرك. وأمر الإساءة اختصاصه. اترك الأمر له.
السلطة التشريعية: هو الذي وضع القانون “أجرة الخطية موت”، ومن يكسره يسيء إلى الله قبل أن يسيء إليك.
السلطة القضائية: هو الديان الذي يصدر الحكم العادل. “لي النقمة، أنا أجازي يقول الرب” (رومية 12: 19)، “لا تخافوا. لأنه هل أنا مكان الله؟” (تكوين 50: 19)
السلطة التنفيذية: هو الذي ينفذ حكمه. “قد تكلمت فأجريه. قضيت فأفعله” (أشعيا 46: 11)
السلطة الإعلامية: هو يظهر حقك. “يخرج مثل النور برك وحقك مثل الظهيرة” (مزمور 37: 5).
تدخلك في سلطات الله وعمله واختصاصه وخطته يفسد الأمور؛ ماذا لو انتقم يوسف من إخوته؟
لكان قد خسر كل شيء، ولما ذكره الكتاب كبطل المسامحة. ولكان العالم قد خسر أعظم آبائه؛ رؤوس الأسباط وأنسالهم؛ لاوي ونسله؛ موسى وهرون وزكريا ويوحنا؛ يهوذا ونسله: داود، وسليمان.. والرب يسوع. خطة الرب كانت استخدامهم كآباء شعبه، وأنت لا تعرف خطة الرب لأخيك المسيء. فلا تسئ إليه، لأنك بذلك تسيء لابن الرب.
الحقيقة الخامسة:
في المسامحة أتحرر نفسك من عبودية الشرير.. المسامحة جزء من ممارسة الحرية.. والحرية قوة. عدم المسامحة هي إبقاء القيح تحت الجرح؛ تبقى تؤلمك وتسمم كيانك، بينما المسيء مرتاح ينام ليله. فقط بالمسامحة تتخلص من أثر الإساءة، وتتحرر.
الحقيقة السادسة:
المسامحة تقطع دائرة الشر والإساءة، وتفتح الباب للبركات. المشكلة هي عندما يطالب المؤمن بحقه الشخصي؛ مقياس المؤمن الروحي هو حقه وكرامته ورد فعله للخطأ. فقط دس على قدم المؤمن المبتسم اللطيف المحترم، وانظر ما يخرج من داخله، وكأنه يتحول إلى شخص آخر.
لا تتعامل مع الآخرين كصاحب الحق الأخير. أنت وكيل، وما لك هو للرب. إن اغتصب، فقد اعتدي على الرب في الأساس لا عليك؛ أطلب حقك، ولكن لا تخاصم لتأخذه؛ لا تخسر أخيك ولا تخطئ وتحزن روح الله. دعه هو يأخذ حقك/حقه إن لم تستطع بالمسالمة.
كم من عداوات استحكمت وكنائس انقسمت وبيوت تهدمت بسبب دفاع عن حق شخصي.
من لا يسامح يهدم الجسر الذي سيحتاج يومًا أن يعبر عليه.
“إذا قابلت الإساءة بالإساءة، متى تنتهي الإساءة؟” (غاندي).. يلزم قطع الدائرة المهلكة، وهي تقطع بالنعمة. لن تأخذ بالنعمة إن لم تحي مبدأ النعمة.. كما في مثل السيد والعبد المديون. “إن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضًا زلاتكم” (متى 6: 15).
يوسف يشبه الرب في ما عمله وتعرض إليه:
ذهب ليسأل عن سلامة إخوته.. كما أتى الرب ليطلب سلامتنا
تآمروا عليه وباعوه.. كما تآمر الإنسان على الرب
كان ذلك جسر العبور إلى حياة إخوته.. كان الصليب جسر العبور إلى الحياة والمجد.. لمسامحة في الحالتين كانت طريق الحياة لهم، ولنا. سامح تنتصر، ويفتح الرب طريقا للخير والبركة.
انضمي إلينا اليوم وكوني جزءًا من مجتمعنا المتنوع! سجّلي الآن وأنشئي ملفك الشخصي للاستمتاع بفوائد عديدة وتجارب فريدة داخل موقعنا.