كلنا نختبر نوعًا أو أنواعًا من التوتر في حياتنا، ويستحيل أن نتخلَّص من كل أشكاله. بالنسبة إلى البعض قد يكون التوتر محفِّزًا إيجابيًّا للعطاء والتقدم.
كلمة توتر ليست مذكورة في الكتاب المقدس، ولكن ذُكرت مرادفاتها المرتبِطة بكلمات مثل ضيق أو هم أو قلق أو أزمة. حسب النسخة الدولية الجديدة (NIV) ذُكرت مرادفات كلمة “ضيق” 111 مرة. إذًا بالتأكيد هناك الكثير ليقوله الكتاب المقدس عن هذه الظاهرة الإنسانية.
في مزمور 13 كان داود يناجي الله ويقول له: “إلى متى يا رب تنساني كل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عني؟” (عدد 1). لقد كان داود مهمومًا في نفسه وحزينًا في قلبه، واستمرَّ هذا الشعور لفترة طويلة حتى إنه قال إنه كان يختبر هذه المشاعر كل يوم.
ويخبرنا الكتاب عن مرثا التي كانت مرتبكة في خدمة كثيرة، وتهتمّ وتضطرب لأجل أمور كثيرة (لوقا 10: 38-42).
حتى ربنا يسوع المسيح نفسه اختبر هذه المشاعر قبل ذهابه إلى الصليب، وشارك تلاميذه، قال: “نفسي حزينة جدًّا حتى الموت!” (لوقا 14: 34).
فما الذي يجعل الإنسان وحتى المؤمن الذي يُحِبّ الرب يختبر هذا النوع من مشاعر الضيق ويُصاب بالتوتر في حياته؟
لنعرِّف بداية مفهوم التوتر.
هو ما يشعر به الفرد من مصادر ضاغطة في الحياة، وتلك المصادر تؤثر تأثيرًا سلبيًّا على أدواره في الحياة، ويكون الإنسان تحت الضغوط سريع الغضب، وليس لديه قدرة على الإنجاز ولا التعاون مع غيره.
التوتر هو تجاوب طبيعي مع متطلبات الحياة اليومية، فدماغنا مصمَّم للتفاعل مع التهديدات التي نشهدها، بحيث تفرَز هرمونات معينة تزيد من سرعة دقات القلب وتثير تجاوبًا سريعًا. ومن ناحية أخرى، قد يكون التوتر إيجابيًّا وقد يُنقذ حياتك، فردود أفعالك الجسدية والنفسية تجاه التغيير والتحديات تحفِّزك على الأداء الجيد. مثلًا: إن تسارَعت سيارة نحوكِ فتجاوبك الناتج عن التوتر سيحميكِ من الدهس لأنكِ ستبتعدين وتنقذين نفسكِ، ومن أمثلته الطبيعية الأخرى ما يحدث عند الزواج أو الحصول على ترقية جديدة في العمل.
ولكننا في مقالنا هذا سنركز على مسبِّبات التوتر بوجه العموم والتي لربما قد تؤثر على أدائنا أو حياتنا ونحتاج إلى السيطرة عليها حتى لا تتحول إلى توتر من نوع مزمن.
أصبحت الضغوطات اليومية في الوقت الراهن جزءًا من روتين الإنسان اليومي، فلا يمرّ يوم بدون ضغوط جديدة. لذلك من المهم أن نميز القضية الحالية التي تسبب لنا التوتر ونكتشف أسبابها، فلربما أنها ترتبط بأشخاص يسببون لنا التوتر، أو أحداث ومواقف وظروف، أو حتى أفكار ومشاعر.
تسبب لنا التحديات والضيقات توترًا، وأذكر منها الضيقات المالية على سبيل المثال، فعندما لا نعرف كيف ندبر أمور أولادنا من طعام وشراب أو دفع فواتيرنا وتسديد التزاماتنا أو قروضنا، من الطبيعي أن يصيبنا التوتر.
هذه التحديات آخذة في التزايد في عالم يزداد فيه التركيز على الماديات، فيصيبنا التوتر بسبب حاجتنا إلى الحفاظ على أسلوب حياة معيَّن.
فهل تثقين أنَّ الله يدبِّر ويسدد الاحتياج؟ يقول الرب يسوع في إنجيل متى 6: 25 و27: “لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟”
لنحذر لئلا نسقط في فخ الجشع المادي والخوف من المجهول ونصدق بالكذبة التي تقول إنَّ الرخاء يريحنا ويجلب لنا السعادة والرخاء والفرح؛ لأنه لا يفعل (مرقس 4: 19).
أجريت دراسة في النرويج- التي تعتبر من الدول الغنية- لدراسة تأثير الغنى على البلد الذي أخذ يبتعد عن الله نتيجة غناه بحيث لم يعد يشعر أنه بحاجة إلى الله لأنَّ احتياجاته مسدَّدة ومُشبَعة. وهكذا، في الفترة من نهاية الأربعينات وحتى السبعينات. كان منحنى الثراء المسجَّل يزداد صعودًا وكذلك مستوى السعادة، إلى أن ثبتَ في فترة السبعينات إلى الثمانينات ثم لم يعُد يرتفع أبدًا بعد ذلك إنما صارت له توابع سلبية.
الأزمة كما يعرِّفها قاموس وبستر هي: نقطة تحول يحدث عندها تغيير إلى الأفضل أو الأسوأ. وفي اللغة العربية فإنَّ كلمة أزمة تشير إلى حدث عصيب يهدد كيان الوجود الإنساني أو الجماعة البشرية. ويذكر عبد الفتاح عثمان أنَّ الأزمة ليست مرضًا جسميًّا أو نفسيًّا له مواصفاته. ولكنها موقف غير مألوف شاذّ يهدد الإنسان للكفاح من أجل البقاء. هذا الكفاح الذي قد يثير خبرات ماضية كامنة منذ الطفولة. فالأزمة هي موقف غير مألوف وغير متوقَّع يحدث للإنسان، يهدِّد كيانه المستقر ويثير في داخله خبرات أليمة. ومثال على ذلك ما حدث نتيجة وباء فيروس كورونا الذي شكل أزمة شرسة لربما نفسية أكثر من مجرد صحية فقط. إضافة إلى الحروب التي جلبت أزمات وأضرارًا بشرية ومادية وبيئية وغيرها. الأمر الذي أثر على الإنسان الواقع تحت تأثيرها: طباعه وسلوكياته ونظرته إلى الحياة والمستقبل وما يورِّثه لأولاده. كما حدث في الإبادة الجماعية للأرمن التي ابتدأت في 24 أبريل 1915م على سبيل المثال، أزمة شرسة لا زلنا نرى واقع تأثيرها على وجه كل أرمني متى جاء ذكرها.
في يعقوب 1: 2-4: “اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ.”
عندما تواجهين الأزمات سواء كانت داخلية أو نتيجة فقدان أو تغيير اجتماعي أو نمو أو حتى أمراض، من الطبيعي أن تشعري بالتوتر. ولكن أنتِ مَن تحددين موقفكِ منه: إما أن تستسلمي له، أو تنظري إليه كوسيلة يحولها الله بصورة إيجابية لتقوية إيمانك وتهذيب شخصيتك (رومية 5: 3-5؛ 8: 28-29).
يقول كاتب مزمور 139 إنك قد امتزتِ عجبًا، وهذا صحيح جدًّا. ولكننا نعيش في عالم من الأشواك منذ تكوين 3 وسقوط آدم وحواء في الخطية. وكل هذه الضغوطات والصراعات والنزعات والتحديات التي نتجت عنه تؤثر فينا بطرق عدَّة. لدينا نواقل عصبية ومواد كيميائية في أدمغتنا تتفاعل بصورة غاية في الدقة ملايين المرات في كل دقيقة. وبالتالي كل هذه المتغيرات تؤثر في حالتنا الجسدية كنبضات قلبنا وتنفسنا وحياتنا العاطفية وحتى الروحية. فقد تظهر عليك أعراض عديدة عندما تكونين متوترة؛ كأن تكوني مرهَقة ومنهَكة أغلب الوقت، بالإضافة إلى شعورك بالقلق الذي قد يقودكِ إلى الشعور بأنه لا يمكنكِ فعل أي شيء بصورة صحيحة. فتستمرّين بالقلق بأن الأمر التالي الذي ستقومين به أيضًا سيكون خاطئًا. وقد تقلقين ليلًا وتعجزين عن أن تنامي نومًا متواصلًا الأمر الذي يزيد من القلق الذي تختبرينه إذ تصابين بالإنهاك العاطفي والجسدي معًا.
حتى إننا قد نتساءل أحيانًا نتيجة لكل هذه الضغوطات التي تبعث بالتوتر ربما بسبب علاقاتنا أو ظروف عملنا أو تحدياتنا الجسدية والفكرية. إن كان الله يحبنا أو يهتم بنا رغم أننا ندرك من كلمة الله أنه فعلًا يحبنا. فهي تؤثر ليس فقط على أجسادنا إنما على عواطفنا وعلاقتنا مع الله.
تذكري أنَّ عدم الطاعة والخطية وعدم التوبة يأتون أيضًا بالتوتر وبالتالي يفصلاننا عن المصدر الوحيد للفرح وسلام الله، فبطاعة وصايا الله نحصد بركة الشبع الحقيقي من إله مُحِبّ.
قد يدفعكِ التوتر إلى الانسحاب من علاقاتك الاجتماعية والدخول في حالة من الانفصال عن الآخرين. أو قد تصرفين وقتًا طويلًا على شاشات الكمبيوتر أو الهواتف المحمولة لتلهية نفسك عن ضغوطات الحياة.
انتبهي من الانغماس في مثل هذه الأمور؛ لأنها ستقودك إلى عوالم أخرى سلبية.
فالبعض قد يقضون أوقاتهم في الألعاب الإلكترونية، ولربما يدمنون الأسوأ من هذا بدخولهم إلى عوالم الإباحية التي أصبحت من أصعب المغريات في عالمنا الحديث بوجود التكنولوجيا الحديثة. كل هذا سيؤثر على علاقتهم مع الله وأنفسهم والآخرين فيدخلون في عالم الذنب والخزي والعار، وقد يتفاقم هذا الشعور إن انفضح الأمر أمام الآخرين. وللأسف، فإنَّ أغلب الناس لا يعرفون كيف يتعاملون مع الأمر فيزداد التوتر أكثر فأكثر في حياتهم.
هل تدركين مسببات التوتر في حياتك؟ أو هل هي بسبب الظروف أم بسبب أزمة معينة أم ربما هي بسبب قلة النضج الروحي والعاطفي؟ أم هل توترك مصدره العمل أم العائلة أم الصحة أم أوضاعك المالية؟ سيساعدك أن تغوصي في نفسك أكثر على فهم أسباب توترك التي قد يأتي من مصادر متعدِّدة وسط عالم تملأه التحديات.
لربما يكمن الأمر في تعاملك مع الضغوطات أو قدرتك على تطبيق وصايا الكتاب المقدس للتعامل معها. هل لا زلتِ تعتقدين أنَّ هناك فجوة بين المعرفة والتطبيق؟
لا بأس إن كنتِ تشعرين بالتوتر، هذا أمر طبيعي في حياة المؤمن أيضًا. لقد عبَّر بولس عن آلامته وتحدياته قائلًا: “بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا كَخُدَّامِ اللهِ: فِي صَبْرٍ كَثِيرٍ، فِي شَدَائِدَ، فِي ضَرُورَاتٍ، فِي ضِيقَاتٍ” (2 كورنثوس 6: 4).
ولكن من الضروري أن تعي السبب، هل هي ضغوطات أو اضطهادات خارجة عن إرادتك. أم بسبب سلوكياتك ومعتقداتك أو ضعف قدرتك على مواجهة التوتر في حياتك؟ وهنا يقتضي العمل على تطوير وإدارة سلوكيات التوتر بمنظور إلهي ومساندة الروح القدس والإخوة والمرشدين، الأمر الذي يحتاج إلى اجتهاد وانضباط وطلب الامتلاء المستمرّ بالروح القدس الذي يمنحنا ثمره من محبة وفرح وأناة وطول أناة ولطف وصلاح وإيمان لمساندتنا وإعانتنا على التعامل مع منغصات الحياة وتحدياتنا الشخصية. إضافة إلى طلب الحكمة السماوية من الله والشفاء الروحي.
عزيزتي، كل أنواع التوتر تشكل جزءًا طبيعيًّا في الحياة إن كان بحدوده الطبيعية الصحية، ولكن كيف تتعاملين معه هو أمر يعود إليكِ. فإن اخترتِ التعامل مع مسببات التوتر وحدكِ معتمِدة على قوتك الذاتية لن تجدي راحة تدوم. وكون هذه المسبِّبات في الحياة لا ولن تنتهي، فلا بدَّ لكِ من التعامل معها باستمرار، والطريقة الوحيدة التي تمكنك من فعل هذا باستمرار هي من خلال يسوع المسيح وقوة روحه، وطرقه أفضل من طرقنا.
اطلبي سلام الله بصورة يومية من خلال إشباع ذهنك بكلامه، وارفعي كل الأمور إليه في الصلاة. اجلسي عند قدميه؛ لأنه فقط من خلال نعمته ورحمته ومحبته يمكنك التعامل مع التوتر في حياتك.
تابعي موقعنا، يمكننا مساعدتك من خلال مقالات أخرى على إدارة توترك بصورة أفضل. ابدئي اليوم بفهم نفسك ومسبِّبات توترك.