دور الثقافة في تشكيل هويتي

إعداد: يزن ملكونيان

في إحدى الليالي كنت جالسًا أتصفح الفيسبوك، وإذ في إحدى الصفحات وجدتُ مقالًا بعنوان: “كيف تصنع خيارًا على شكل نجمة؟” لفت انتباهي الموضوع وذهبت لأقرأ أكثر عن الآلية التي تساعدنا على تطوير هذا النوع من الخيار. وأستخدم هنا كلمة تطوير؛ لأنَّ الحقيقة هي أنَّ الخيار في شكله الطبيعي أسطواني وليس له أشكال أخرى. بدأتُ القراءة مُعتَقِدًا وجود أدوات تساعد على قصِّ الخيار بطريقة معينة، وهذا طبيعيٌّ من خلال مقصّات ذات أشكال مختلفة. لكن ما فاجأني أنَّ الخيار ذا الشكل الأسطواني أصبح ينمو على هيئة نجمة. اعتقدتُ أنَّ الخيار على شكل النجمة هو نتيجة التشكيل بعد النمو، لكن بعد قراءة المقال اكتشفتُ أنَّ الخيار بهذا الشكل هو نتيجة التشكيل خلال النمو، إذ وُضِعَ الخيار في قالب النجمة فنما وكبر بهذا الشكل. 

نحن نتاج ثقافتنا

على النحو نفسه، شئنا أم أبينا نحن نتاج ثقافات متعدِّدة عشناها في حياتنا. وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الثقافة التي نحياها عامل أساسي في تشكيل هويتنا وشخصيتنا، وعلينا الاعتراف أنَّ هذا الأمر هو كالسيف ذي الحدَّين. فبالرغم من أنَّ هناك شيَمًا أصيلة في ثقافتنا العربية إلا أنَّ ناقوس الخطر يدقُّ كثيرًا بين الحين والآخر، منبِّهًا إيّانا بعادات ليست جيِّدة. فمثلًا، هناك بعض العادات والتقاليد التي سريعًا ما نتخلّى عنها عندما نسافر خارج البلاد. إن كانت تتضمَّن اللباس أو الطعام أو حتى طريقة التَّفكير، وهذا يؤكِّد أننا نتبنّى أفكارًا شكَّلت هويتنا وقناعاتنا لكننا في نفس الوقت نتخلّى عنها حالما يُتاح لنا. 

كنّا قد ذكرنا في مقالٍ سابق أنَّ الهوية هي نتاج إدراك أنكِ مخلوقة على صورة الله كشبهه ومثاله. لذا، أن تعرفي هويتك ينبع من معرفتك على صورة مَن خُلقتِ ولأجل ماذا وُجدتِ.

التحدّي الأكبر

إنَّ من أصعب ما نواجهه ربما أن نقف أمام المرآة وننظر إلى أنفسنا، ونقول: مَن أنا؟ ولماذا أفعل هذا؟ وهل أنا مُجبَرة على أن أكون على هذا الشكل؟ وكلُّ هذه الأسئلة تنشأ في داخلنا نتيجة تضارب ما نريده مع ما نحن عليه الآن. وهذا بسبب أننا نشأنا في مجتمعات لديها تمسُّك أعمى بثقافاتها. فأصبحنا نصرف النظر عما نؤمن به، وصار هدفنا الأسمى ألا نكون محطَّ انتقاد المجتمع الذي نحياه، فنعيش ما لا نؤمن به ونُضحّي بما نؤمن به لنعيش راحة البال.  

الحل: فلتر من نوع آخر

لا أحد منّا يجرؤ على شرب الماء مباشرة من خزانات المياه على الأسطح، وهذا بسبب وجود الكثير من الشوائب التي ترافق المياه. فبالرغم من حاجتنا إلى الماء إلا أنَّ الأهم من الماء هو مدى نظافة الماء والأنابيب التي تنقل الماء إلينا. لذلك في كل بيت هناك الفلتر الذي ينقّي الماء من أيَّة شوائب ويحوِّل الماء غير الصّالح للشرب إلى ماء نقيٍّ ونافع للشرب. وعلى نفس المنوال، نحن لا نستطيع أن نرفض كلَّ ما في ثقافاتنا إلا أننا نستطيع تنقية الشوائب منها.

تقول كلمة الرب: “أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ. كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ. أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكَلاَمِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ.” (يوحنا 15: 1-3). تؤكِّد لنا هذه الآيات أنَّ كلمة الله هي سبب نقاء حياتنا والأداة الوحيدة التي يستخدمها الرَّبُّ لتنقية شعبه من الشوائب التي تلتصق به. فبالرغم من وجود عدد لا بأس به من الشوائب التي شكَّلت هويَّتنا، لكن هناك دعوة اليوم للعودة إلى الأداة الإلهية المستخدَمة في التنقية، وهي كلمته. والتنقية تستمر لنكون مشابهين صورة يسوع. 

وحتى يكون كلامنا قابلًا للتطبيق، سأطرح مثالًا. هناك ثقافة سائدة في المجتمع الذكوري العربي تقول إنَّ المرأة لديها نصف عقل. يؤدِّي هذا الطرح إلى نموِّ المرأة في مجتمعنا بعقلية أنها أقلّ مكانة وقيمة من الرجل الذي يمتلك عقلًا كاملًا حسب رأي المجتمع. وهذا مثال بسيط على كيفية تشكيل ثقافتنا لهويَّتنا. لكنكِ عندما تأخذين هذه الفكرة وتضعينها في فلتر الكتاب المقدس، تجدين الكتاب يُعلِّمنا، قائلًا: “لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.” (غلاطية 3: 28 ب). وهذا يعني أنَّ كلمة الله تعطي قيمة مساوية مشترَكة للذكر والأنثى، وبالتالي من الأولى رفض ما تعلِّمه الثقافة ونشر ثقافة وسلطة كلمة الله في حياتنا. 

مثال آخر

من وحي ثقافتنا التي نعيشها، يعتقد البعض أنَّ لباس الحشمة مقرون إلى حدٍ كبير في الثقافة السائدة التي نحياها، وهذا شكَّل لدينا عقليَّة أنَّ المرأة يجب أن تظهر في شكل معين؛ لأنَّ الثقافة تتطلَّب هذا النوع من اللباس، ويتمُّ التخلي عنه حالما وجدنا ثقافة مختلفة لا تتطلَّب هذا النوع من اللباس. لكن عند فلترة هذه الأفكار ضمن تعاليم الكتاب المقدس، نجد الكتاب المقدَّس يُعلِّمنا: “وَكَذلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل،” (1تيموثاوس 2: 9 أ). إنَّ لباس الحِشمة غير مقترن بثقافة بل بعقلية مسيحيَّة تلتزم الاحتشام بصرف النظر عن الثقافة. 

ولأعطيكِ مثالًا آخر، يقدِّر المجتمع الآخرين ويعبِّر عن احترامه لهم بأن يعطي المجالس الأولى لأصحاب المكانة أو الوظيفة المرموقة، بينما يرى الكتاب المقدس خلاف هذا، ففي مرقس 12 والأعداد 38-40 نسمع كلمات الرب: “وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. الَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ».”

فالله لا يحابي الموجوه ولا ينظر إلى العينين بل إلى القلب، وهذا ما حدث عندما اختار صموئيل النبي داود، فالناس كانوا ينظرون إلى القامة والجمال والمظهر الخارجي، بينما كان الله يريد إنسانًا حسب قلبه. فالثقافة السائدة وجدت القيادة من نصيب الأكثر هيبة ووجاهة- بمنظورهم- بينما اختار الله مَن كان قلبه موحَّدًا كاملًا نحوه، كما حدث عندما رفض الله شاول واختار داود ليملك على الشعب. 

ثلاثة معايير لتقييم ثقافتك

وأخيرًا، سأقدِّم لكِ بعض النصائح التي لربما تساعدك على التحرُّر من سطوة المجتمع على شخصيتك.

  1. افحصي كلَّ شيء يقدِّمه لك المجتمع: من الطَّبيعيِّ أن تطير العصافير فوق رؤوسنا، لكن من المؤكد أنَّنا نحن مَن نقرِّر حرِّيَّتها في التوقف والبقاء فوق رؤسنا، لذلك نحن لا نستطيع إيقاف المجتمع عن تقديم نصائحه لنا، لكننا بلا شكَّ نحن مَن نقرِّر أن تبنى هذه النصائح أو نرفضها. فمثلًا عندما ينصحني المجتمع بأن أقاطع صديقًا أو فردًا من العائلة؛ لأنه أساء إليّ ولم يحترمني، ينبغي أن أقيِّم هذا السلوك المطلوب في ضوء كلمة الله التي تؤكد على ضرورة الغفران ومحاولة إصلاح العلاقة والمسالَمة قدر الطاقة، فكلمة الله تطلب مني أن أغفر 70 مرة 7 مرات وأحب أعدائي، فكم بالحري لو كانوا أهل بيتي! 
  2. هل هذا الشّيء يجعلك أفضلَ؟ 

تقول كلمة الرب: “«كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، لكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ.” (1كو 6: 12)

أهمُّ ما يُميِّز المسيحية هو الحرية، ويختزل البعض مفهوم الحريَّة بالانفلات، لكن تُقدم المسيحية مفهومًا أشمل للحرية وهو الحرية المنضبِطة والتي تقول لا حتى للأمور التي لربما يعتقدها البعض حريَّة، لكنها بالواقع تستعبدنا. لذلك فالسؤال المهم الإجابة عنه هو: هل هذا الشيء الذي يقدِّمه المجتمَع سيجعلني أفضل؟ 

ومثال على ذلك الأوقات التي أصرفها على السوشال ميديا، فتقنية تكونولوجية من هذا النوع ليست خطية بحدّ ذاتها بل هي نعمة وفرصة للاتساع والتواصل والخدمة لو استُخدمت بطريقة صحيحة، ولكن عندما تأخذ السوشال ميديا مساحة كبيرة من حياتي ووقتي النوعي مع نفسي ومَن حولي، أو تستخدم بطريقة سلبية لهدم أو نقد مَن حولي أو لتعكس صورة غير صحيحة عن نفسي، فإنها تجعلني أعيش في عالم افتراضي وهمي وتؤثر في صحتي العقلية وإنجازي وتفعالي الاجتماعي والعائلي، عندها تكون تتسلَّط عليَّ، فهي تحلُّ لي ولكنها لا توافقني.

  1. هل هذا الشيء موافق لكلمة الرَّبِّ؟ 

من حين إلى آخر يفرض المجتمع ضوابط علينا، وتكون هذه الضوابط صحيحة من وجهة نظر مجتمعيَّة لكنها ليست بالضرورة صحيحة من وجهة نظر كتابية. لذلك يحثُّنا الكتاب المقدس على إطاعة كلمة الله أكثر من الناس “يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ.” (أعمال الرسل 5: 29). وبالتالي يجب أن أسأل هذا السؤال وأفحص أيَّ عادة أو فكرة أو ممارَسة يقدِّمها لي المجتمع في ضوء الكتاب المقدَّس: هل هذا الشيء موافق لكلمة الله أم لا؟ كذلك أجيب عن السؤال كيف يراني الله؟ 

فالمجتمع مثلًا قد يعتبر المساومة أو الرشوة أو الكذب ملحًا لا مضرَّ منه لإتمام صفقة تجارية أو نوعًا من الذكاء الاجتماعي الذي لا بدَّ منه لتوثيق العلاقات وتتميم المصالح الشخصية التي لا مفرَّ منها، ولربما يكون هذا مقبولًا مجتمعيًّا، ولكنَّ كلمة الله تعلِّمنا أن نرفض كل مساومة تجعلنا نتنازل عن مبادئنا، بل ويعلِّمنا مبدأ الزرع والحصاد وأنَّ البركة لن تأتي بالرشوة والمحسوبية، وهذا ينطبق على المساومة بالمبادئ بكل أنواعها، وليس فقط فيما يتعلَّق بالمال. مكتوب في خروج 23: 8: “وَلاَ تَأْخُذْ رَشْوَةً، لأَنَّ الرَّشْوَةَ تُعْمِي الْمُبْصِرِينَ، وَتُعَوِّجُ كَلاَمَ الأَبْرَارِ.”

 لذلك وكما قُلنا سابقًا: ليس كلّ ما تقدمه الثقافة لنا هو شيء سيّئ؛ لأنَّ هناك قيمًا تميَّزَت بها ثقافتنا الشرقية. لكن في ذات الوقت، عليكِ ألا تجعلي ثقافتكِ هي المعيار الأسمى في صياغة وتشكيل هويَّتك وتكوين مبادئك؛ لأنَّها ليست المعيار الأعلى للحقِّ، فمرجعك وأساسك الذي تستندين إليه هو كلمة الله. فمن خلال كلمة الله أدرك قيمتي في المسيح وأفهم معنى هويتي في المسيح.